فصل: الأحكام المتعلّقة بالشّهوة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


شهادة الاسترعاء

انظر‏:‏ استرعاء

شهادة الزّور

التّعريف

1 - شهادة الزّور‏:‏ مركّب إضافيّ يتكوّن من كلمتين هما‏:‏ الشّهادة، والزّور‏.‏

أمّا الشّهادة في اللّغة، فمن معانيها‏:‏ البيان، والإظهار، والحضور، ومستندها المشاهدة إمّا بالبصر أو بالبصيرة‏.‏

وأمّا الزّور فهو الكذب والباطل، وقيل‏:‏ هو شهادة الباطل، يقال‏:‏ رجل زور وقوم زور‏:‏ أي مموّه بكذب‏.‏

وشهادة الزّور عند الفقهاء‏:‏ هي الشّهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام أو تحريم حلال‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ شهادة الزّور من أكبر الكبائر وأنّها محرّمة شرعاً، قد نهى اللّه تعالى عنها في كتابه مع نهيه عن الأوثان فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏، وقد روي عن خريم بن فاتك الأسديّ‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة الصّبح فلمّا انصرف قام قائماً، فقال‏:‏ عدلت شهادة الزّور الإشراك باللّه ثلاث مرّات ثمّ تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ «‏.‏

وروى أبو بكرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ ‏{‏ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى يا رسول اللّه، قال ثلاثاً‏:‏ الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين – وكان متّكئاً – فقال‏:‏ ألا وقول الزّور، وشهادة الزّور، ألا وقول الزّور، وشهادة الزّور فما زال يقولها حتّى قلت‏:‏ لا يسكت «‏.‏

وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » لن تزول قدما شاهد الزّور حتّى يوجب اللّه له النّار «‏.‏

فمتى ثبت عند القاضي أو الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمداً عزّره باتّفاق الفقهاء، مع اختلافهم في كيفيّة التّعزير، وسيأتي آراء الفقهاء فيها‏.‏

بم تثبت شهادة الزّور‏؟‏

3 – ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ شهادة الزّور لا تثبت إلاّ بالإقرار، لأنّه لا تتمكّن تهمة الكذب في إقراره على نفسه، أو بأن يشهد بما يقطع بكذبه‏:‏ بأن يشهد على رجل بفعل في الشّام في وقت، ويعلم أنّ المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق، أو يشهد بقتل رجل وهو حيّ، أو أنّ هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنّها أقلّ من ذلك، أو يشهد على رجل أنّه فعل شيئاً في وقت وقد مات قبل ذلك، أو لم يولد إلاّ بعده وأشباه هذا ممّا يتيقّن بكذبه ويعلم تعمّده لذلك‏.‏ 4 - ولا تثبت بالبيّنة، لأنّها نفي لشهادته، والبيّنة حجّة للإثبات دون النّفي، وقد تعارضت البيّنتان فلا يعزّر في تعارض البيّنتين، أو ظهور فسقه أو غلطه في الشّهادة، لأنّ الفسق لا يمنع الصّدق، والتّعارض لا يعلم به كذب إحدى البيّنتين بعينها، والغلط قد يعرض للصّادق العدل ولا يتعمّده فيعفى عنه‏.‏ وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏‏.‏

قال الشّيرازيّ من الشّافعيّة وابن فرحون من المالكيّة‏:‏ تثبت شهادة الزّور من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن يقرّ أنّه شاهد زور‏.‏

والثّاني‏:‏ أن تقوم البيّنة أنّه شاهد زور‏.‏

والثّالث‏:‏ أن يشهد ما يقطع بكذبه‏.‏

وإذا ثبت ذلك بالبيّنة فعليه العقوبة سواء أكان ذلك قبل الحكم أم بعده‏.‏

كيفيّة عقوبة شاهد الزّور

5 - لمّا كانت الشّريعة لم تقدّر عقوبةً محدّدةً لشاهد الزّور فإنّ هذه العقوبة هي التّعزير، وقد اختلف الفقهاء في عقوبة شاهد الزّور من حيث تفصيلات هذه العقوبة لا من حيث مبدأ عقاب شاهد الزّور بالتّعزير، إذ أنّه لا خلاف عند الفقهاء في تعزيره إذا ثبت عند الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمداً عزّره وجوباً وشهّر به، روي ذلك عن عمر - رضي الله عنه - وبه قال شريح وسالم بن عبد اللّه والأوزاعيّ وابن أبي ليلى‏.‏

واختلفوا في كيفيّة التّعزير، فقال الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة‏:‏ تأديب شاهد الزّور مفوّض إلى رأي الحاكم إن رأى تعزيره بالجلد جلده، وإن رأى أن يحبسه، أو كشف رأسه وإهانته وتوبيخه فعل ذلك، ولا يزيد في جلده على عشر جلدات، وقال الشّافعيّ‏:‏ لا يبلغ بالتّعزير أربعين سوطاً‏.‏

وأمّا كيفيّة التّشهير به بين النّاس‏:‏ فإنّ الحاكم يوقفه في السّوق إن كان من أهل السّوق، أو محلّة قبيلته إن كان من أهل القبائل، أو في مسجده إن كان من أهل المساجد، ويقول الموكّل به‏:‏ إنّ الحاكم يقرأ عليكم السّلام ويقول‏:‏ هذا شاهد زور فاعرفوه‏.‏

6- ولا يسخّم وجه - أي يسوّده - لأنّه مثلة، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المثلة، ولا يركبه مقلوباً، ولا يكلّف الشّاهد أن ينادي على نفسه، وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعيّ فللحاكم أن يفعل ممّا يراه، ما لم يخرج إلى مخالفة نصّ أو معنى نصّ‏.‏

7- وقال أبو يوسف ومحمّد وبعض المالكيّة‏:‏ إذا ثبت عند القاضي أو الحاكم عن رجل أنّه شهد بالزّور عوقب بالسّجن والضّرب، ويطاف به في المجالس، لما روي عن عمر - رضي الله عنه- أنّه ضرب شاهد زور أربعين سوطاً وسخّم وجهه‏.‏

وعن الوليد بن أبي مالك أنّ عمر رضي الله عنه كتب إلى عمّاله بالشّام‏:‏ إذا أخذتم شاهد الزّور فاجلدوه بضرب أربعين سوطاً، وسخّموا وجهه وطوّفوا به حتّى يعرفه النّاس، ويحلق رأسه ويطال حبسه، لأنّه أتى كبيرةً من الكبائر للحديث السّابق‏.‏

وقد قرن اللّه تعالى بين شهادة الزّور وبين الشّرك، فقال‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏، ولأنّ هذه الكبيرة يتعدّى ضررها إلى العباد بإتلاف أنفسهم وأعراضهم وأموالهم‏.‏

7 م - وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا أقرّ الشّاهد أنّه شهد زوراً‏:‏ يشهّر به في الأسواق إن كان سوقيّاً، أو بين قومه إن كان غير سوقيّ، وذلك بعد صلاة العصر في مكان تجمّع النّاس، ويقول المرسل معه‏:‏ إنّا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه، وحذّروه النّاس، ولا يعزّر بالضّرب أو الحبس، لأنّ شريحاً كان يشهّر شاهد الزّور ولا يعزّره، وكان قضاياه لا تخفى عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنّه أنكر عليه منكر، ولأنّ المقصود هو التّوصّل إلى الانزجار، وهو يحصل بالتّشهير، بل ربّما يكون أعظم عند النّاس من الضّرب، فيكتفى به، والضّرب وإن كان مبالغةً في الزّجر لكنّه يقع مانعاً عن الرّجوع فوجب التّخفيف نظراً إلى هذا الوجه‏.‏

وذكر الزّيلعيّ نقلاً عن الحاكم أبي محمّد الكاتب‏:‏ أنّ هذه المسألة على ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يرجع على سبيل التّوبة والنّدامة، فإنّه لا يعزّر بإجماع أئمّة الحنفيّة‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يرجع من غير توبة، وهو مصرّ على ما كان منه فإنّه يعزّر بإجماعهم‏.‏

والثّالث‏:‏ أن لا يعلم رجوعه بأيّ سبب فإنّه على الاختلاف الّذي ذكرنا‏.‏

القضاء بشهادة الزّور

8 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وأبو يوسف ومحمّد وزفر من الحنفيّة وإسحاق وأبو ثور‏:‏ إلى أنّ قضاء الحاكم بشهادة الزّور ينفذ ظاهراً لا باطناً، لأنّ شهادة الزّور حجّة ظاهراً لا باطناً فينفذ القضاء كذلك لأنّ القضاء ينفذ بقدر الحجّة، ولا يزيل شيئاً عن صفته الشّرعيّة، سواء العقود من النّكاح وغيره والفسوخ، فلا يحلّ للمقضيّ له بشهادة الزّور ما حكم له به من مال أو بضع أو غيرهما، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار «‏.‏

وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية‏:‏ ينفذ قضاء بشهادة الزّور ظاهراً وباطناً في العقود والفسوخ حيث كان المحلّ قابلاً، والقاضي غير عالم بزورهم، لقول عليّ - رضي الله عنه - لامرأة أقام عليها رجل بيّنةً على أنّه تزوّجها، فأنكرت فقضى له عليّ - رضي الله عنه - فقالت له‏:‏ لم تزوّجني‏؟‏ أما وقد قضيت عليّ فجدّد نكاحي، فقال‏:‏ لا أجدّد نكاحك، الشّاهدان زوّجاك، فلو لم ينعقد النّكاح بينهما باطناً بالقضاء لما امتنع من تجديد العقد عند طلبها‏.‏

9- وأمّا في الأملاك المرسلة - أي الّتي لم يذكر لها سبب معيّن - فإنّ الفقهاء أجمعوا على أنّه ينفذ ظاهراً لا باطناً، لأنّ الملك لا بدّ له من سبب وليس بعض الأسباب بأولى من البعض لتزاحمها فلا يمكن إثبات السّبب سابقاً على القضاء بطريق الاقتضاء‏.‏

تضمين شهود الزّور

10 - متى علم أنّ الشّهود شهدوا بالزّور، تبيّن أنّ الحكم كان باطلاً، ولزم نقضه وبطلان ما حكم به، ويضمن شهود الزّور ما ترتّب على شهادتهم من ضمان‏.‏ فإن كان المحكوم به مالاً‏:‏ ردّ إلى صاحبه، وإن كان إتلافاً‏:‏ فعلى الشّهود ضمانه، لأنّهم سبب إتلافه‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأشهب من المالكيّة‏:‏ إلى وجوب القصاص على شهود الزّور إذا شهدوا على رجل بما يوجب قتله، كأن شهدوا عليه بقتل عمد عدوان أو بردّة أو بزنىً وهو محصن، فقتل الرّجل بشهادتهما، ثمّ رجعا وأقرّا بتعمّد قتله، وقالا‏:‏ تعمّدنا الشّهادة عليه بالزّور ليقتل أو يقطع‏:‏ فيجب القصاص عليهما، لتعمّد القتل بتزوير الشّهادة، لما روى الشّعبيّ‏:‏ أنّ رجلين شهدا عند عليّ - رضي الله عنه - على رجل بالسّرقة فقطعه ثمّ عادا فقالا‏:‏ أخطأنا، ليس هذا هو السّارق، فقال عليّ‏:‏ لو علمت أنّكما تعمّدتما لقطعتكما، ولا مخالف له في الصّحابة فيكون إجماعاً، وإنّهما تسبّبا إلى قتله أو قطعه بما يفضي إليه غالباً فلزمهما كالمكره‏.‏ وبه قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والأوزاعيّ، وأبو عبيد‏.‏

11 - وكذلك الحكم إذا شهدوا زوراً بما يوجب القطع قصاصاً، فقطع أو في سرقة لزمهما القطع، وإذا سرى أثر القطع إلى النّفس فعليهما القصاص في النّفس، كما يجب القصاص على القاضي إذا قضى زوراً بالقصاص، وكان يعلم بكذب الشّهود‏.‏

وتجب عليهما الدّية المغلّظة إذا قالا‏:‏ تعمّدنا الشّهادة عليه، ولم نعلم أنّه يقتل بهذا، وكانا ممّا يحتمل أن يجهلا ذلك‏.‏ وتجب الدّية في أموالهما لأنّه شبه عمد ولا تحمله العاقلة، لأنّه ثبت باعترافهما والعاقلة لا تحمل الاعتراف‏.‏

12 - وإن رجع شهود القصاص أو شهود الحدّ بعد الحكم بشهادتهم وقبل الاستيفاء، لم يستوف القود ولا الحدّ، لأنّ المحكوم به عقوبة لا سبيل إلى جبرها إذا استوفيت بخلاف المال، ولأنّ رجوع الشّهود شبهة لاحتمال صدقهم، والقود والحدّ يدرآن بالشّبهة، فينقض الحكم، ولا غرم على الشّهود بل يعزّرون‏.‏

ووجبت دية قود للمشهود له، لأنّ الواجب بالعمد أحد شيئين وقد سقط أحدهما فتعيّن الآخر، ويرجع المشهود عليه بما غرمه من الدّية على الشّهود‏.‏

وذهب الحنفيّة والمالكيّة عدا أشهب‏:‏ إلى أنّ الواجب هو الدّية لا القصاص، لأنّ القتل بشهادة الزّور قتل بالسّبب، والقتل تسبّباً لا يساوي القتل مباشرةً، ولذا قصر أثره، فوجبت به الدّية لا القصاص‏.‏

12 م - ويجب حدّ القذف على شهود الزّور إذا شهدوا بالزّنى ويقام عليهم الحدّ سواء تبيّن كذبهم قبل الاستيفاء أو بعده‏.‏

ويحدّون في الشّهادة بالزّنى حدّ القذف أوّلاً، ثمّ يقتلون إذا تبيّن كذبهم بعد استيفاء الحدّ بالرّجم‏.‏ وذلك عند الشّافعيّة، لأنّهم لم يقولوا بالتّداخل في هذه المسألة، وأمّا عند الجمهور‏:‏ فإن كان في الحدود قتل فإنّه يكتفى به، لقول ابن مسعود - رضي الله عنه -‏:‏ ما كانت حدود فيها قتل إلاّ أحاط القتل بذلك كلّه ولأنّه لا حاجة معه إلى الزّجر بغيره، واستثنى المالكيّة من ذلك حدّ القذف فقد ذكروا أنّه لا يدخل في القتل، بل لا بدّ من استيفائه قبله‏.‏

توبة شاهد الزّور

13 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو ثور‏:‏ إلى أنّه إذا تاب شاهد الزّور وأتت على ذلك مدّة تظهر فيها توبته، وتبيّن صدقه فيها وعدالته، قبلت شهادته‏.‏

لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ‏}‏‏.‏

ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له «‏.‏

ولأنّه تائب من ذنبه، فقبلت توبته كسائر التّائبين‏.‏

ومدّة ظهور التّوبة عندهم سنة، لأنّه لا تظهر صحّة التّوبة في مدّة قريبة، فكانت أولى المدد بالتّقدير سنةً، لأنّه تمرّ فيها الفصول الأربعة الّتي تهيج فيها الطّبائع وتتغيّر فيها الأحوال‏.‏

وقال البابرتيّ من الحنفيّة‏:‏ مدّة ظهور التّوبة عند بعض الحنفيّة ستّة أشهر، ثمّ قال‏:‏ والصّحيح أنّه مفوّض إلى رأي القاضي‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن كان ظاهر الصّلاح حين شهد بالزّور لا تقبل له شهادة بعد ذلك لاحتمال بقائه على الحالة الّتي كان عليها، وإن كان غير مظهر للصّلاح حين الشّهادة ففي قبولها بعد ذلك إذا ظهرت توبته قولان‏.‏

شهادتان

انظر‏:‏ إسلام، تلقين

شَهْر

التّعريف

1 - الشّهر‏:‏ الهلال، سمّي به لشهرته ووضوحه، ثمّ سمّيت الأيّام به‏.‏ وجمعه‏:‏ شهور وأشهر، وهو مأخوذ من الشّهرة وهي‏:‏ الانتشار ووضوح الأمر، ومنه شهرت الأمر أشهره شهراً وشهرةً فاشتهر أي‏:‏ وضح، وكذلك أشهرته وشهّرته تشهيراً‏.‏

وأوّل الشّهر‏:‏ من اليوم الأوّل إلى السّادس عشر‏.‏ وآخر الشّهر منه إلى الآخر إلاّ إذا كان تسعةً وعشرين يوماً، فإنّ أوّله حينئذ إلى وقت الزّوال من الخامس عشر، وما بعده آخر الشّهر‏.‏ ورأس الشّهر‏:‏ اللّيلة الأولى مع اليوم‏.‏

وغرّة الشّهر‏:‏ إلى انقضاء ثلاثة أيّام‏.‏

واختلفوا في الهلال فقيل‏:‏ إنّه كالغرّة، والصّحيح أنّه أوّل يوم، وإن خفي فالثّاني‏.‏

وسلخ الشّهر‏:‏ اليوم الأخير منه‏.‏

وفي الشّرع‏:‏ المراد بالشّهر عند الإطلاق‏:‏ الشّهر الهلاليّ‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏‏.‏

ولم يختلف النّاس في أنّ الأشهر الحرم معتبرة بالأهلّة‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ هذه الآية تدلّ على أنّ الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها، إنّما يكون بالشّهور والسّنين الّتي تعرفها العرب، دون الشّهور الّتي تعتبرها العجم والرّوم والقبط، وإن لم تزد - شهور سنواتهم - على اثني عشر شهراً لأنّها مختلفة الأعداد‏:‏ منها ما يزيد على ثلاثين يوماً، ومنها ما ينقص‏.‏ وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين يوماً، وإن كان منها ما ينقص‏.‏ والّذي ينقص ليس يتعيّن له شهر، وإنّما تفاوتها في النّقصان والتّمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج‏.‏ وورد في كتب الشّافعيّة استثناء من هذا الأصل في بعض المسائل، كالأشهر السّتّة المعتبرة في أقلّ الحمل، يريدون بالشّهر فيها ثلاثين يوماً ولا يعنون به الشّهر الهلاليّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالشّهر

أشهر الحجّ

2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ أشهر الحجّ هي‏:‏ شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ أشهر الحجّ هي‏:‏ شوّال وذو القعدة وذو الحجّة‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ ‏(‏أشهر الحجّ ف 1 - 4 ج 5 /49‏)‏‏.‏

الأشهر الحرم

3 - الأشهر الحرم‏:‏ هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏ والمراد بها‏:‏ رجب مضر، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم‏.‏

وللتّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏الأشهر الحرم ف 1 - 6 ج 5 /50‏)‏‏.‏

العدّة بالشّهور

4 - إذا لم تكن من وجبت عليها العدّة ذات قرء لصغر أو يأس، فإنّها تعتدّ بالشّهور، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ‏}‏‏.‏

وذات القرء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدّت بالأشهر‏.‏

والآيسة، وكلّ من توفّي عنها زوجها ولا حمل بها قبل الدّخول أو بعده حرّةً أو أمةً عدّتها بالشّهور، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

وللفقهاء تفصيل في عدّة المطلّقة بالأشهر، وعدّة المتوفّى عنها زوجها، وانتقال العدّة من الأشهر إلى الأقراء، وانتقالها من الأقراء إلى الأشهر‏:‏ ينظر في ‏(‏عدّة‏)‏‏.‏

الإجارة مشاهرةً

5 - إذا قال المؤجّر‏:‏ آجرتك داري عشرين شهراً كلّ شهر بدرهم مثلاً جاز العقد بغير خلاف، لأنّ المدّة معلومة وأجرها معلوم وليس لواحد من المؤجّر والمستأجر حقّ الفسخ بحال، لأنّها مدّة واحدة فأشبه ما لو قال‏:‏ آجرتك عشرين شهراً بعشرين درهماً‏.‏

أمّا إذا قال المؤجّر‏:‏ آجرتك هذا كلّ شهر بدرهم‏.‏ فقد اختلف الفقهاء في صحّة الإجارة حسب الاتّجاهات التّالية‏:‏

ذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة وأبو ثور إلى‏:‏ أنّ الإجارة صحيحة إلاّ أنّ الشّهر الأوّل تلزم الإجارة فيه بإطلاق العقد، وما بعده من الشّهور يلزم العقد فيه بالتّلبّس به، وهو السّكنى في الدّار‏.‏

واستدلّوا بأنّ عليّاً - رضي الله عنه - استقى لرجل من اليهود كلّ دلو بتمرة، وجاء بالتّمر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل منه، قال عليّ‏:‏ كنت أدلو الدّلو وأشترطها جلدةً‏.‏

وعن أبي هريرة‏:‏ » أنّ رجلاً من الأنصار قال ليهوديّ‏:‏ أسقي نخلك‏؟‏ قال‏:‏ كلّ دلو بتمرة‏.‏ واشترط الأنصاريّ أن لا يأخذها خدرةً – عفنةً – ولا تارزةً – يابسةً- ولا حشفةً‏.‏ ولا يأخذ إلاّ جلدةً فاستقى بنحو من صاعين، فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم «‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وهو نظير مسألتنا، ولأنّ شروعه في كلّ شهر مع ما تقدّم في العقد من الاتّفاق على تقدير أجره والرّضا ببذله به جرى مجرى ابتداء العقد عليه وصار كالبيع بالمعاطاة‏.‏ والمالكيّة وإن كانوا يقولون بصحّة الإجارة في هذه الحالة إلاّ أنّهم لا يعتبرون الإجارة لازمةً فلكلّ من المؤجّر والمستأجر عندهم حلّ العقد عن نفسه متى شاء، ولا كلام للآخر‏.‏

والقول الصّحيح للشّافعيّة ولأبي بكر عبد العزيز بن جعفر وأبي عبد اللّه بن حامد من الحنابلة‏:‏ أنّ العقد باطل لأنّ ‏"‏ كلّ ‏"‏ اسم للعدد، فإذا لم يقدّره كان مبهماً مجهولاً فيكون فاسداً كما لو قال‏:‏ آجرتك مدّةً أو شهراً‏.‏

قال في الإملاء - وهو القول المقابل للصّحيح للشّافعيّة -‏:‏ تصحّ الإجارة في الشّهر الأوّل، وتبطل فيما زاد، لأنّ الشّهر الأوّل معلوم وما زاد مجهول، فصحّ في المعلوم وبطل في المجهول، كما لو قال‏:‏ آجرتك هذا الشّهر بدينار وما زاد بحسابه‏.‏

المراد بالشّهر في الإجارة

6 - لا خلاف بين الفقهاء أنّ عقد الإجارة إذا انطبق على أوّل الشّهر كان ذلك الشّهر وما بعده بالأهلّة‏.‏

وإن لم ينطبق العقد على أوّل الشّهر تمّم المنكسر بالعدد من الأخير، ويحسب الثّاني بالأهلّة‏.‏ بهذا يقول الشّافعيّة والصّاحبان من الحنفيّة، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو ما يؤخذ من عبارات المالكيّة في باب العدّة‏.‏

ويرى أبو حنيفة والشّافعيّ في رواية - نقلها عنه ابن قدامة - وأحمد في رواية‏:‏ أنّه يستوفى الجميع بالعدد، لأنّ الشّهر الأوّل يكمل بالأيّام من الثّاني، فيصير أوّل الثّاني بالأيّام، فيكمل بالثّالث وهكذا‏.‏

والظّاهر أنّ هذا الخلاف يجري في كلّ ما يعتبر بالأشهر، كعدّة وفاة، وصوم شهري كفّارة، ومدّة خيار، وأجل ثمن وسلم لأنّ هذه المسائل تساوي ما تقدّم معنىً‏.‏

الشَّهْرُ الحرام

انظر‏:‏ الأشهر الحرم

شَهْرُ رمضان

انظر‏:‏ رمضان

شُهْرَة

انظر‏:‏ تسامح، ألبسة

شَهْوَة

التّعريف‏:‏

1 - الشّهوة لغةً‏:‏ اشتياق النّفس إلى الشّيء، والجمع‏:‏ شهوات‏.‏ وشيء شهيّ، مثل لذيذ، وزناً ومعنىً‏.‏

واشتهاه وتشهّاه‏:‏ أحبّه ورغب فيه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ توقان النّفس إلى المستلذّات‏.‏

وقال القرطبيّ‏:‏ الشّهوات عبارة عمّا يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتّقيه‏.‏

وفي إعطاء النّفس حظّها من الشّهوات المباحة مذاهب حكاها الماورديّ‏:‏

أحدها‏:‏ منعها وقهرها كي لا تطغى‏.‏

والثّاني‏:‏ إعطاؤها تحيّلاً على نشاطها وبعثاً لروحانيّتها‏.‏

والثّالث‏:‏ قال - وهو الأشبه -‏:‏ التّوسّط، لأنّ في إعطاء الكلّ سلاطةً، وفي المنع بلادةً‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالشّهوة‏:‏

نقض الوضوء باللّمس بشهوة

2 - ذهب الحنفيّة إلى‏:‏ أنّ لمس المرأة غير المحرم بشهوة أو بغير شهوة غير ناقض للوضوء، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى‏:‏ أنّه ينتقض الوضوء بمباشرة فاحشة استحساناً، وهي مسّ فرج أو دبر بذكر منتصب بلا حائل يمنع حرارة الجسد، أو مع وجود حائل رقيق لا يمنع الحرارة‏.‏

وكما ينتقض وضوء الرّجل ينتقض وضوء المرأة كما في القنية‏.‏

وقال محمّد بن الحسن‏:‏ لا ينتقض الوضوء إلاّ بخروج المذي، وهو القياس‏.‏

ووجه الاستحسان‏:‏ أنّ المباشرة الفاحشة لا تخلو عن خروج المذي غالباً، والغالب كالمتحقّق‏.‏ وفي مجمع الأنهر‏:‏ قوله‏:‏ - أي محمّد -‏:‏ أقيس، وقولهما‏:‏ أحوط‏.‏

3 - وذهب المالكيّة إلى‏:‏ أنّ لمس المتوضّئ البالغ لشخص يلتذّ بمثله عادةً - من ذكر أو أنثى- ينقض الوضوء ولو كان الملموس غير بالغ، أو كان اللّمس لظفر أو شعر أو من فوق حائل كثوب، وظاهر المدوّنة سواء كان الحائل خفيفاً يحسّ اللامس معه بطراوة البدن، أم كان كثيفاً، وتأوّلها بعض المالكيّة بالخفيف، ومحلّ الخلاف بين الخفيف والكثيف ما لم يقبض، فإن قبض على شيء من الجسم نقض اتّفاقاً‏.‏

ومحلّ النّقض‏:‏ إن قصد التّلذّذ بلمسه، وإن لم تحصل له لذّة حال لمسه، أو وجدها حال اللّمس وإن لم يكن قاصداً لها ابتداءً‏.‏ فإن لم يقصد ولم تحصل له لذّة فلا نقض ولو وجدها بعد اللّمس‏.‏ والملموس - إن بلغ ووجد اللّذّة أو قصدها - بأن مالت نفسه لأن يلمسه غيره فلمسه‏:‏ انتقض وضوءه، لأنّه صار في الحقيقة لامساً وملموساً، فإن لم يكن بالغاً فلا نقض، ولو قصد ووجد‏.‏ وأمّا القبلة في الفم فتنقض الوضوء مطلقاً، سواء قصد المقبّل اللّذّة أو وجدها، أم لا، لأنّها مظنّة اللّذّة بخلافها في غير الفم‏.‏ وسواء في النّقض‏:‏ المقبّل والمقبّل، ولو وقعت بإكراه أو استغفال‏.‏

ولا ينتقض الوضوء بلذّة من نظر أو فكر ولو أنعظ، ولا بلمس صغيرة لا تشتهى أو بهيمة‏.‏

4 - وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التقاء بشرتي الرّجل والمرأة ينقض الوضوء، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بشهوة أو إكراه، أو نسيان، أو يكون الرّجل ممسوح الذّكر، أو خصيّاً، أو عنّيناً، أو المرأة عجوزاً شوهاء أو كافرةً‏.‏

واللّمس عندهم‏:‏ الحسّ باليد، والمعنى فيه أنّه مظنّة ثوران الشّهوة، ومثله في ذلك باقي صور الالتقاء فألحقت به، بخلاف نقض الوضوء بمسّ الفرج، فإنّه يختصّ ببطن الكفّ لأنّ المسّ إنّما يثير الشّهوة ببطن الكفّ، واللّمس يثيرها به وبغيره‏.‏

والمراد بالرّجل‏:‏ الذّكر إذا بلغ حدّاً يشتهي لا البالغ‏.‏

وبالمرأة‏:‏ الأنثى إذا صارت مشتهاةً لا البالغة‏.‏

ولا ينتقض الوضوء بلمس المحرم له بنسب أو رضاع أو مصاهرة، ولو بشهوة في الأظهر، لأنّها ليست مظنّة الشّهوة بالنّسبة إليه، كالرّجل‏.‏ ومقابل الأظهر ينتقض الوضوء لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏‏.‏

والملموس رجلاً كان أو امرأةً كاللامس في نقض وضوئه في الأظهر، لاستوائهما في لذّة اللّمس‏.‏

ولا نقض بلمس الصّغيرة أو الصّغير إذا لم يبلغ كلّ منهما حدّاً يشتهى عرفاً‏.‏ ولا بلمس الشّعر أو السّنّ أو الظّفر في الأصحّ‏.‏

5- وذهب الحنابلة إلى أنّ من النّواقض للوضوء مسّ بشرة الذّكر بشرة أنثى لشهوة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏‏.‏

وأمّا كون اللّمس لا ينقض إلاّ إذا كان لشهوة فللجمع بين الآية والأخبار‏.‏ لأنّه روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت‏:‏ » فقدت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان «‏.‏ ونصبهما دليل على أنّه كان يصلّي، وروي عنها أيضاً أنّها قالت‏:‏ » كنت أنام بين يدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي «‏.‏

والظّاهر أنّ غمزه رجليها كان من غير حائل‏.‏ ولأنّ المسّ ليس بحدث في نفسه، وإنّما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت الحالة الّتي يدعو فيها إلى الحدث، وهي حالة الشّهوة‏.‏

وينقض الوضوء مسّ بشرتها بشرته لشهوة، لأنّها ملامسة تنقض الوضوء فاستوى فيها الذّكر والأنثى كالجماع‏.‏

ويشترط في المسّ النّاقض للوضوء‏:‏ أن يكون من غير حائل، لأنّه مع الحائل لم يلمس بشرتها، أشبه ما لو لمس ثيابها لشهوة، والشّهوة لا توجب الوضوء بمجرّدها‏.‏

ولا ينقض مسّ الرّجل الطّفلة، ولا مسّ المرأة الطّفل‏.‏ أي‏:‏ من دون سبع سنوات، ولا ينتقض وضوء ملموس بدنه ولو وجد منه شهوةً، لأنّه لا نصّ فيه‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشّهوة، لأنّ ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس‏.‏

ولا ينتقض وضوء بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر، ولا بلمس شعر وظفر وسنّ ولا المسّ به، لأنّه في حكم المنفصل، ولا مسّ عضو مقطوع لزوال حرمته، ولا ينتقض وضوء رجل مسّ أمرد ولو بشهوة، لعدم تناول الآية له‏.‏ ولأنّه ليس محلاً للشّهوة شرعاً‏.‏

ولا ينتقض الوضوء بمسّ الرّجلِ الرّجلَ، ولا بمسّ المرأةِ المرأةَ ولو بشهوة‏.‏

وتفصيل ما تقدّم في مصطلح‏:‏ ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏

الشّهوة وأثرها في الصّوم

أ - الإنزال بنظر أو فكر‏:‏

6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى‏:‏ أنّ إنزال المنيّ أو المذي عن نظر وفكر لا يبطل الصّيام، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه‏:‏ إذا اعتاد الإنزال بالنّظر، أو كرّر النّظر فأنزل يفسد الصّيام‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى‏:‏ أنّ إنزال المنيّ بالنّظر المستديم يفسد الصّوم، لأنّه إنزال بفعل يتلذّذ به، ويمكن التّحرّز منه‏.‏

وأمّا الإنزال عن فكر فيفسد الصّوم عند المالكيّة، وعند الحنابلة لا يفسده لأنّه لا يمكنه التّحرّز عنه‏.‏

ب - الإنزال عن قبلة أو مسّ أو معانقة‏:‏

7- لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إنزال المنيّ باللّمس أو المعانقة أو القبلة يفسد الصّوم، لأنّه إنزال بمباشرة فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج‏.‏

أمّا إذا حصل من القبلة والمعانقة واللّمس إنزال مذي فلا يفسد الصّوم عند الحنفيّة والشّافعيّة، ويفسده عند المالكيّة والحنابلة، لأنّه خارج تخلّله الشّهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصّوم كالمنيّ‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

الشّهوة وأثرها في الحجّ والعمرة

أ - الجماع‏:‏

8 - إذا وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء وإذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة وقبل التّحلّل الأوّل فسد حجّه وعليه بدنة عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة -‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم فساد الحجّ وعليه أن يهدي بدنةً‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ الجماع إذا وقع بعد التّحلّل الأوّل لا يفسد الحجّ‏.‏

وقد سبق تفصيله في مصطلح ‏(‏إحرام‏:‏ الموسوعة 2 /191 - 193‏)‏‏.‏

ب - مقدّمات الجماع‏:‏

9 - اللّمس بشهوة والتّقبيل والمباشرة بغير جماع، يجب على من فعل شيئاً منها الدّم، سواء أنزل أم لم ينزل، وحجّه صحيح على تفصيل وخلاف سبق في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام‏:‏ الموسوعة 2 /192 - 193‏)‏‏.‏

ج - النّظر والتّفكّر‏:‏

10 - النّظر أو التّفكّر بشهوة إذا أدّى إلى الإنزال لا يجب عليه شيء عند الحنفيّة والشّافعيّة خلافاً للمالكيّة والحنابلة‏.‏

وتفصيل الخلاف فيه سبق في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام‏:‏ الموسوعة 2 /193‏)‏‏.‏

النّظر بشهوة

نظر الرّجل للمرأة‏:‏

11 - أ - إذا كانت زوجةً جاز للزّوج النّظر إلى جميع جسدها بشهوة‏:‏

ب - إذا كانت المرأة ذات محرم فقد اختلف الفقهاء فيما يجوز نظر البالغ بلا شهوة من محرمه الأنثى‏:‏

فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز النّظر إلى ما يظهر غالباً كالرّقبة والرّأس والكفّين والقدمين، ولم يجز الحنابلة النّظر إلى ما زاد على ذلك‏.‏

وزاد الحنفيّة جواز النّظر إلى الصّدر والسّاقين والعضدين، ولم يجيزوا النّظر إلى ظهرها وبطنها، لأنّه أدعى للشّهوة‏.‏

وتوسّع الشّافعيّة فأجازوا النّظر إلى جميع جسدها إلاّ ما بين سرّتها وركبتها، وأجازوا النّظر إلى السّرّة والرّكبة، لأنّهما ليستا بعورة بالنّسبة لنظر المحرم‏.‏

أمّا المالكيّة فلم يجيزوا النّظر إلاّ إلى وجهها ويديها دون سائر جسدها‏.‏

هذا وقد اتّفقوا على حرمة النّظر بشهوة إلى محرمه الأنثى‏.‏

ج - إذا كانت المرأة أجنبيّةً حرّةً فلا يجوز النّظر إليها بشهوة مطلقاً، أو مع خوف الفتنة بلا خلاف بين الفقهاء‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز نظر الأجنبيّ إلى سائر بدن الأجنبيّة الحرّة إلاّ الوجه والكفّين لقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏‏.‏ إلاّ أنّ النّظر إلى مواضع الزّينة الظّاهرة وهي الوجه والكفّان خصّ فيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ والمراد من الزّينة مواضعها، ومواضع الزّينة الظّاهرة‏:‏ الوجه والكفّان، فالكحل زينة الوجه والخاتم زينة الكفّ، ولأنّها تحتاج إلى البيع والشّراء والأخذ والعطاء، ولا يمكنها ذلك عادةً إلاّ بكشف الوجه والكفّين، فيحلّ لها الكشف، وهذا قول أبي حنيفة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه يحلّ النّظر إلى القدمين‏.‏

والمالكيّة كالحنفيّة في جواز النّظر إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها‏.‏ أمّا النّظر إلى القدمين فلا يجوز عندهم‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يحرم نظر بالغ عاقل مختار، ولو شيخاً أو عاجزاً عن الوطء أو مخنّثاً - وهو المتشبّه بالنّساء - إلى عورة أجنبيّة حرّة كبيرة - وهي من بلغت حدّاً تشتهى فيه للنّاظر بلا خلاف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ والمراد بالعورة‏:‏ ما عدا الوجه والكفّين‏.‏

وكذا يحرم عندهم‏:‏ النّظر إلى الوجه والكفّين عند خوف فتنة تدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدّماته بالإجماع كما قال إمام الحرمين‏.‏

وكذا يحرم عند الشّافعيّة النّظر إلى الوجه والكفّين عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصّحيح، كذا في المنهاج للنّوويّ‏.‏

ووجّهه إمام الحرمين باتّفاق المسلمين على منع النّساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأنّ النّظر مظنّة الفتنة ومحرّك للشّهوة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ واللائق بمحاسن الشّريعة سدّ الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبيّة‏.‏

والوجه الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا يحرم، ونسبه إمام الحرمين لجمهور الشّافعيّة، ونسبه الشّيخان للأكثرين، وقال الإسنويّ في المهمّات‏:‏ إنّه الصّواب لكون الأكثرين عليه، وقال البلقينيّ‏:‏ التّرجيح بقوّة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج‏.‏

وذهب الحنابلة إلى تحريم نظر الرّجل إلى جميع بدن الأجنبيّة من غير سبب في ظاهر كلام أحمد‏.‏ وقال القاضي‏:‏ يحرم عليه النّظر إلى ما عدا الوجه والكفّين، لأنّه عورة، ويباح له النّظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة ونظر لغير شهوة‏.‏

هذا وقد اتّفق الفقهاء على أنّ النّظر إلى المرأة بشهوة حرام، سواء أكانت محرماً أم أجنبيّةً عدا زوجته ومن تحلّ له‏.‏

وكذا يحرم نظر الأجنبيّة إلى الأجنبيّ إذا كان بشهوة‏.‏

اللّمس بشهوة‏:‏

12 - متى حرم النّظر حرم المسّ بشهوة، لأنّ المسّ أبلغ من النّظر في إثارة الشّهوة، وما حلّ نظره من ذكر أو أنثى حلّ لمسه إذا أمن الشّهوة على نفسه وعليها، وإن لم يأمن ذلك أو شكّ فلا يحلّ له النّظر واللّمس‏.‏

أمّا الأجنبيّة فلا يحلّ مسّ وجهها وكفّيها وإن أمن الشّهوة، لأنّه أغلظ من النّظر‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏لمس ومسّ‏)‏‏.‏

أثر الشّهوة في النّكاح‏:‏

13 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى‏:‏ أنّ حرمة المصاهرة تثبت بالزّنى‏.‏

وزاد الحنابلة اللّواط في رواية‏.‏ والصّحيح عندهم أنّ اللّواط لا ينشر الحرمة، لأنّ المحرّمات باللّواط غير منصوص عليهنّ في التّحريم، فيدخلن في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ‏}‏‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى‏:‏ أنّ حرمة المصاهرة كما تثبت بالزّنى تثبت بالمسّ والنّظر بشهوة‏.‏ فيحرم أصل ممسوسة بشهوة ولو لشعر على الرّأس بحائل لا يمنع الحرارة، وكذا يحرم أصل ما مسّته‏.‏ ويحرم أيضاً نكاح أصل النّاظرة بشهوة إلى ذكر، وأصل المنظور إلى فرجها بشهوة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏زنىً، لواط، نظر، نكاح‏)‏ والعبرة للشّهوة عند المسّ والنّظر لا بعدهما‏.‏

حدّ الشّهوة

14 - حدّ الشّهوة في النّظر والمسّ تحرّك الآلة أو زيادة التّحرّك إن كان موجوداً قبلها، وبه يفتى عند الحنفيّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏لواط، ونكاح‏)‏‏.‏

أثر الشّهوة في الرّجعة

15 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ الرّجعة تحصل بالقول والفعل، ويقصدون بالفعل‏:‏ الوطء ومقدّماته، ومقدّمات الوطء لا تخلو عن مسّ بشهوة‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الرّجعة لا تحصل بالفعل كالوطء ومقدّماته‏.‏ بل لا بدّ فيها من القول قياساً على عقد الزّواج فإنّه لا يصحّ إلاّ بالقول الدّالّ عليه‏.‏

وتفصيل الخلاف فيه في مصطلح‏:‏ ‏(‏رجعة‏)‏‏.‏

كسر الشّهوة

16 - من أراد الزّواج ولم يستطع، يكسر شهوته بالصّوم لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ » يا معشر الشّباب من استطاع الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء «‏.‏

فمن لم يجد أهبة النّكاح يكسرها بالصّوم، ولا يكسرها بنحو كافور بل يكره له ذلك ويكره أن يحتال في قطع شهوته، لأنّه نوع من الخصاء، إن غلب على الظّنّ أنّه لا يقطع الشّهوة بالكلّيّة بل يفتّرها في الحال، ولو أراد إعادتها باستعمال ضدّ الأدوية لأمكنه ذلك، فإن كان يقطع الشّهوة حرم‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏نكاح‏)‏‏.‏

شَهِيد

التّعريف

1 - الشّهيد لغةً‏:‏ الحاضر‏.‏ والشّاهد، العالم الّذي يبيّن ما علمه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ‏}‏‏.‏

والشّهيد من أسماء اللّه تعالى، ومعناه الأمين في شهادته والحاضر‏.‏

والشّهيد المقتول في سبيل اللّه، والجمع شهداء‏.‏

قال ابن الأنباريّ سمّي الشّهيد شهيداً لأنّ اللّه وملائكته شهدوا له بالجنّة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنّه يكون شهيداً على النّاس بأعمالهم‏.‏

والشّهيد في اصطلاح الفقهاء‏:‏ من مات من المسلمين في قتال الكفّار وبسببه‏.‏

ويلحق به في أمور الآخرة أنواع يأتي بيانها‏.‏

منزلة الشّهيد

2 - الشّهيد له منزلة عالية عند اللّه - سبحانه وتعالى - يشهد بها القرآن الكريم في عدد من الآيات منها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏‏.‏

ويشهد بهذه المنزلة الأحاديث الصّحيحة منها‏:‏ ما روى أنس بن مالك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدّنيا وله ما على الأرض من شيء إلاّ الشّهيد يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل عشر مرّات لما يرى من الكرامة «‏.‏

وما روى أبو الدّرداء - رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » يشفع الشّهيد في سبعين من أهل بيته «‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ » للشّهيد عند اللّه ستّ خصال، يغفر له في أوّل دفعة، ويرى مقعده من الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور، ويشفع في سبعين من أقاربه «‏.‏

أقسام الشّهيد

3 - الشّهيد على ثلاثة أقسام‏:‏

الأوّل شهيد الدّنيا والآخرة، والثّاني شهيد الدّنيا، والثّالث شهيد الآخرة‏.‏

فشهيد الدّنيا والآخرة هو الّذي يقتل في قتال مع الكفّار، مقبلاً غير مدبر، لتكون كلمة اللّه هي العليا، وكلمة الّذين كفروا هي السّفلى، دون غرض من أغراض الدّنيا‏.‏

ففي الحديث عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال‏:‏ » إنّ رجلاً أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً‏:‏ الرّجل يقاتل للمغنم، والرّجل يقاتل للذّكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل اللّه‏؟‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا، فهو في سبيل اللّه «‏.‏

أمّا شهيد الدّنيا‏:‏ فهو من قتل في قتال مع الكفّار وقد غلّ في الغنيمة، أو قاتل رياءً، أو لغرض من أغراض الدّنيا‏.‏

وأمّا شهيد الآخرة‏:‏ فهو المقتول ظلماً من غير قتال، وكالميّت بداء البطن، أو بالطّاعون، أو بالغرق، وكالميّت في الغربة، وكطالب العلم إذا مات في طلبه، والنّفساء الّتي تموت في طلقها، ونحو ذلك‏.‏

واستثني من الغريب العاصي بغربته، ومن الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السّلامة، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي، ومن الطّلق الحامل بزنىً‏.‏

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » الشّهداء خمسة‏:‏ المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشّهيد في سبيل اللّه «‏.‏

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » الطّاعون شهادة لكلّ مسلم «‏.‏

وفي حديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » من قتل دون ماله فهو شهيد «‏.‏

غسل الشّهيد والصّلاة عليه

4 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّ شهيد المعترك لا يغسّل، خلافاً لما ذهب إليه الحسن البصريّ، وسعيد بن المسيّب، إذ قالا بغسله‏.‏

أمّا الصّلاة عليه فيرى الحنفيّة وجوبها وهو ما قال به الخلال والثّوريّ، وروي عن أحمد بن حنبل القول باستحبابها‏.‏

ويستدلّ الحنفيّة للزوم الصّلاة بما روى ابن عبّاس وابن الزّبير‏:‏ » أنّه عليه الصلاة والسلام صلّى على شهداء أحد، وكان يؤتى بتسعة تسعة، وحمزة عاشرهم، فيصلّي عليهم‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّه صلى الله عليه وسلم صلّى على غيرهم «‏.‏

وعن شدّاد بن الهاد‏:‏ » أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فآمن به واتّبعه ثمّ قال‏:‏ أهاجر معك‏.‏ فأوصى به النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلمّا كانت غزوة، غنم النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم‏.‏ فلمّا جاء دفعوه إليه فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ قسم قسمه لك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ قسمته لك، قال‏:‏ ما على هذا اتّبعتك، ولكنّي اتّبعتك على أن أرمى إلى ههنا، وأشار إلى حلقه، بسهم فأموت فأدخل الجنّة‏.‏ فقال‏:‏ إن تصدق اللّه يصدقك‏.‏ فلبثوا قليلاً ثمّ نهضوا في قتال العدوّ فأتي به النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار‏.‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أهو هو‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ صدق اللّه فصدقه‏.‏ ثمّ كفّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جبّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قدّمه فصلّى عليه فكان فيما ظهر من صلاته‏:‏ اللّهمّ هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك «‏.‏

وبما روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال‏:‏ » إنّه عليه السلام خرج يوماً فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت ثمّ انصرف إلى المنبر «‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الصّلاة على الميّت شرعت إكراماً له، والطّاهر من الذّنب لا يستغني عنها، كالنّبيّ والصّبيّ‏.‏

أمّا المالكيّة فيرون عدم غسله والصّلاة عليه، ونصّ بعضهم على تحريمهما‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ يحرم غسل الشّهيد والصّلاة عليه لأنّه حيّ بنصّ القرآن، ولما ورد عن جابر‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم، ولم يغسّلوا ولم يصلّ عليهم «‏.‏ وجاء من وجوه متواترة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليهم وقال في قتلى أحد‏:‏ » زمّلوهم بدمائهم «‏.‏

ولعلّ ترك الغسل والصّلاة على من قتله جماعة المشركين إرادة أن يلقوا اللّه جلّ وعزّ بكلومهم لما جاء فيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » أنّ ريح الكلم ريح المسك واللّون لون الدّم « واستغنوا بكرامة اللّه جلّ وعزّ عن الصّلاة لهم مع التّخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل بالزّحف من المشركين من الجراح وخوف عودة العدوّ ورجاء طلبهم وهمّهم بأهليهم وهمّ أهليهم بهم‏.‏

والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشّهادة عليهم والتّعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم‏.‏

وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » ليس شيء أحبّ إلى اللّه من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية اللّه، وقطرة دم تهراق في سبيل اللّه، أمّا الأثران فأثر في سبيل اللّه، وأثر في فريضة من فرائض اللّه «‏.‏

وجمهور الحنابلة يرون حرمة غسله، وهي رواية عن الإمام أحمد، غير أنّ منهم من يرى كراهته، أمّا الصّلاة فلا يصلّى عليه في أصحّ الرّوايتين لديهم‏.‏ وفي رواية عندهم تجب الصّلاة عليه، ومال إلى هذا بعض علمائهم منهم الخلال، وأبو الخطّاب وأبو بكر بن عبد العزيز في التّنبيه‏.‏

ضابط الشّهيد الّذي لا يغسّل ولا يصلّى عليه

5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ‏:‏ من قتله المشركون في القتال، أو وجد ميّتاً في مكان المعركة وبه أثر جراحة أو دم، لا يغسّل لقوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد‏:‏ » زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسّلوهم «، ولم ينقل خلاف في هذا إلاّ ما روي عن الحسن، وسعيد بن المسيّب‏.‏ واختلفوا في غير من ذكر، فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى‏:‏ أنّ كلّ مسلم مات بسبب قتال الكفّار حال قيام القتال لا يغسّل، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأً، أو عاد إليه سلاحه، أو سقط عن دابّته، أو رمحته دابّة فمات، أو وجد قتيلاً بعد المعركة ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم أم لا، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة، والحرّ والعبد، والبالغ والصّبيّ‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ يغسّل كلّ مسلم قتل بالحديد ظلماً وهو طاهر بالغ، ولم يجب عوض ماليّ في قتله، فإن كان جنباً أو صبيّاً، أو وجب في قتله قصاص، فإنّه يغسّل، وإن وجد قتيلاً في مكان المعركة، فإن ظهر فيه أثر لجراحة، أو دم في موضع غير معتاد كالعين فلا يغسّل‏.‏

ولو خرج الدّم من موضع يخرج الدّم عادةً منه بغير آفة في الغالب كالأنف، والدّبر والذّكر فيغسّل‏.‏

والأصل عندهم في غسل الشّهيد‏:‏ أنّ كلّ من صار مقتولاً في قتال أهل الحرب أو البغاة، أو قطّاع الطّريق، بمعنىً مضاف إلى العدوّ كان شهيداً، سواء بالمباشرة أو التّسبّب، وكلّ من صار مقتولاً بمعنىً غير مضاف إلى العدوّ لا يكون شهيداً‏.‏ فإن سقط من دابّته من غير تنفير من العدوّ أو انفلتت دابّة مشرك وليس عليها أحد فوطئت مسلماً، أو رمى مسلم إلى العدوّ فأصاب مسلماً، أو هرب المسلمون فألجأهم العدوّ إلى خندق، أو نار، أو جعل المسلمون الحسك حولهم، فمشوا عليها، في فرارهم، أو هجومهم على الكفّار فماتوا يغسّلون، وكذا إن صعد مسلم حصناً للعدوّ ليفتح الباب للمسلمين، فزلّت رجله فمات، يغسّل‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يغسّل الشّهيد سواء كان مكلّفاً أو غيره إلاّ إن كان جنباً أو امرأةً حائضاً أو نفساء طهرت من حيضها، أو نفاسها، وإن سقط من دابّته أو وجد ميّتاً ولا أثر به، أو سقط من شاهق في القتال أو رفسته دابّة فمات منها، أو عاد إليه سهمه فيها، فالصّحيح في المذهب في ذلك كلّه أنّه‏:‏ يغسّل، إذا لم يكن ذلك من فعل العدوّ، ومن قتل مظلوماً، بأيّ سلاح قتل، كقتيل اللّصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة، فلا يغسّل في أصحّ الرّوايتين عن أحمد‏.‏

وقال الشّافعيّة، والمالكيّة‏:‏ يغسّل من قتله اللّصوص أو البغاة‏.‏ أمّا من مات في غير ما ذكر من الّذين ورد فيهم أنّهم شهداء‏:‏ كالغريق، والمبطون، والمرأة الّتي ماتت في الولادة، وغير ذلك فإنّهم شهداء في الآخرة، ولكنّهم يغسّلون باتّفاق الفقهاء‏.‏

إزالة النّجاسة عن الشّهيد

6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى‏:‏ أنّه إذا كان على الشّهيد نجاسة غير دم الشّهادة تغسل عنه، وإن أدّى ذلك إلى إزالة دم الشّهادة، لأنّها ليست من أثر العبادة، وفي قول عند الشّافعيّة، ولا تغسل النّجاسة إذا كانت تؤدّي إلى إزالة دم الشّهادة‏.‏

وسبق أنّ النّجاسة تغسل عن الشّهيد عند الحنفيّة‏.‏

موت الشّهيد بجراحه في المعركة

7 - المُرْتَثُّ‏:‏ وهو من جرح في القتال، وقد بقيت فيه حياة مستقرّة ثمّ مات يغسّل وإن قطع أنّ جراحته ستؤدّي إلى موته‏.‏

وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏ارتثاث 3 /9‏)‏‏.‏

تكفين الشّهيد

8 - شهيد القتال مع الكفّار لا يكفّن كسائر الموتى بل يدفن في ثيابه الّتي كانت عليه في المعركة بعد نزع آلة الحرب عنه‏.‏

لحديث‏:‏ » زمّلوهم بدمائهم «، وفي رواية‏:‏ » في ثيابهم «‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏تكفين ف 14‏)‏‏.‏

دفن الشّهيد

9 - من السّنّة أن يدفن الشّهداء في مصارعهم، ولا ينقلون إلى مكان آخر، فإنّ قوماً من الصّحابة نقلوا قتلاهم في واقعة أحد إلى المدينة، فنادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأمر بردّ القتلى إلى مصارعهم‏.‏

فقد قال جابر‏:‏ » فبينما أنا في النّظّارين إذ جاءت عمّتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي، ألا إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت‏:‏ فرجعنا بهما فدفنّاهما حيث قتلا‏.‏‏.‏ «‏.‏

دفن أكثر من شهيد في قبر واحد

10 - يجوز دفن الرّجلين أو الثّلاثة في القبر الواحد، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في قبر واحد، ثمّ يقول‏:‏ » أيّهم أكثر أخذًا للقرآن‏؟‏ فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد، وقال‏:‏ أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يصلّ عليهم ولم يغسّلهم «‏.‏

ودفن عبد اللّه بن عمرو بن حرام وعمرو بن جموح في قبر واحد، لما كان بينهما من المحبّة، إذ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ » ادفنوا هذين المتحابّين في الدّنيا في قبر واحد «‏.‏

وتفصيله في مصطلح ‏(‏دفن ف 14‏)‏‏.‏

شُورَى

التّعريف

1 - الشّورى لغةً‏:‏ يقال‏:‏ شاورته في الأمر واستشرته‏:‏ راجعته لأرى رأيه فيه، واستشاره‏:‏ طلب منه المشورة‏.‏ وأشار عليه بالرّأي‏.‏ وأشار يشير إذا وجّه الرّأي، وأشار إليه باليد‏:‏ أومأ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الرّأي‏:‏

2 - الرّأي‏:‏ العقل والتّدبير والاعتقاد، ورجل ذو رأي أي‏:‏ بصيرة وحذق بالأمور‏.‏

ب - النّصيحة‏:‏

3 - النّصيحة‏:‏ الإخلاص والصّدق والمشورة والعمل‏.‏

نصحت لزيد، أنصح نصحاً ونصيحةً، هذه اللّغة الفصيحة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ » الدّين النّصيحة قالوا‏:‏ لمن‏؟‏ قال‏:‏ للّه ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم «‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - للعلماء في حكم الشّورى - من حيث هي - رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ الوجوب‏:‏ وينسب هذا القول للنّوويّ، وابن عطيّة، وابن خويز منداد، والرّازيّ‏.‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ‏}‏ وظاهر الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ‏}‏ يقتضي الوجوب‏.‏

والأمر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمشاورة، أمر لأمّته لتقتدي به ولا تراها منقصةً، كما مدحهم سبحانه وتعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدّين، ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب، ووجوه النّاس فيما يتعلّق بالمصالح، ووجوه الكتّاب والوزراء والعمّال، فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها‏.‏

قال ابن عطيّة‏:‏ والشّورى من قواعد الشّريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب وهذا ممّا لا اختلاف فيه‏.‏

ولا يصحّ اعتبار الأمر بالشّورى لمجرّد تطييب نفوس الصّحابة، ولرفع أقدارهم، لأنّه لو كان معلوماً عندهم أنّ مشورتهم غير مقبولة وغير معمول عليها مع استفراغهم للجهد في استنباط ما شوروا فيه، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بعدم قبول مشورتهم‏.‏

الثّاني‏:‏ النّدب‏:‏ وينسب هذا القول لقتادة، وابن إسحاق، والشّافعيّ، والرّبيع‏.‏

واستدلّوا بأنّ المعنى الّذي من أجله أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في مكائد الحروب، وعند لقاء العدوّ، هو تطييب لنفوسهم، ورفع لأقدارهم، وتألّفهم على دينهم، وإن كان اللّه قد أغناه عن رأيهم بوحيه‏.‏

ولقد كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شقّ عليهم، فأمر اللّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ليعرفوا إكرامه لهم فتذهب أضغانهم‏.‏ فالأمر في الآية محمول على النّدب كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » البكر تستأمر « ولو أجبرها الأب على النّكاح جاز‏.‏ لكنّ الأولى أن يستأمرها، ويستشيرها تطييباً لنفسها، فكذا هاهنا‏.‏

حكم الشّورى في حقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم

5 - ذكر الفقهاء في سياق عدّهم لخصائص النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ من الخصائص الواجبة في حقّه المشاورة في الأمر مع أهله وأصحابه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ‏}‏ ووجه اختصاصه صلى الله عليه وسلم بوجوب المشاورة - مع كونها واجبةً على غيره من أولي الأمر - أنّه وجب عليه ذلك مع كمال علمه ومعرفته‏.‏

والحكمة في مشورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ أن يستنّ بها الحكّام بعده، لا ليستفيد منهم علماً أو حكماً‏.‏ فقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم غنيّاً عن مشورتهم بالوحي، كما أنّ في استشارتهم تطييباً لقلوبهم، ورفعاً لأقدارهم، وتألّفاً لهم على دينهم‏.‏

قال أبو هريرة - رضي الله عنه -‏:‏ ما رأيت من النّاس أحداً أكثر مشورةً لأصحابه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

6 - واتّفق الفقهاء على أنّ محلّ مشاورته صلى الله عليه وسلم لا تكون فيما ورد فيه نصّ، إذ التّشاور نوع من الاجتهاد ولا اجتهاد في مورد النّصّ‏.‏

أمّا ما عدا ذلك‏:‏ فإنّ محلّ مشاورته صلى الله عليه وسلم إنّما هو في أخذ الرّأي في الحروب وغيرها من المهمّات ممّا ليس فيه حكم بين النّاس، وأمّا ما فيه حكم بين النّاس فلا يشاور فيه، لأنّه إنّما يلتمس العلم منه، ولا ينبغي لأحد أن يكون أعلم منه، بما أنزل عليه لأنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

أمّا في غير الأحكام فربّما بلغهم من العلم ممّا شاهدوه أو سمعوه ما لم يبلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد صحّ في حوادث كثيرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في مهمّات الأمور ممّا ليس فيه حكم‏.‏

وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه في أمر الأذان وهو من أمور الدّين فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال‏:‏ » كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلاة ليس ينادى لها، فتكلّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النّصارى، وقال بعضهم‏:‏ بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر‏:‏ أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصّلاة‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا بلال قم فناد بالصّلاة « ومن ذلك أنّه أراد مصالحة عيينة بن حصن الفزاريّ والحارث بن عوف المرّيّ، حين حصره الأحزاب في الخندق على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ويرجعا بمن معهما من غطفان عنه، فاستشار سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا له‏:‏ يا رسول اللّه أمراً تحبّه فنصنعه أم شيئاً أمرك اللّه به لا بدّ لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا‏؟‏ قال‏:‏ بل شيء أصنعه لكم، فأشارا عليه ألاّ يعطيهما فلم يعطهما شيئاً‏.‏

كما استشار في أسارى بدر، فأشار أبو بكر‏:‏ بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر رضي الله عنه، وكان هذا قبل نزول آية الأنفال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ‏}‏‏.‏

ولمّا نزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم منزله ببدر قال له الحباب بن المنذر‏:‏ يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل‏؟‏ أمنزل أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه‏؟‏ أم هو الرّأي والحرب والمكيدة‏؟‏ فقال‏:‏ بل هو الرّأي والحرب والمكيدة، قال‏:‏ إنّ هذا ليس لنا بمنزل، فانهض بالنّاس، حتّى نأتي أدنى منزل من القوم فننزله ثمّ نغور ما وراءه من القلب، ونبني لك حوضاً فنملأه ماءً، ثمّ نقاتل النّاس، فنشرب ولا يشربون‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد أشرت بالرّأي‏.‏

كما شاور النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليّاً وأسامة - رضي الله عنهما - في قصّة الإفك‏.‏

وجاء في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال - وهو على المنبر -‏:‏ » ما تشيرون عليّ في قوم يسبّون أهلي‏؟‏ ما علمت عليهم إلاّ خيراً « وكان هذا قبل نزول براءة عائشة - رضي الله عنها - في سورة النّور‏.‏

الشّورى في القضاء

7 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّه يندب للقاضي أن يستشير فيما يعرض عليه من الوقائع الّتي يشكل عليه أمرها إذا لم يتبيّن له فيها الحكم‏.‏

ومحلّ الشّورى في القضاء هو فيما اختلفت فيه أقوال الفقهاء، وتعارضت فيه آراؤهم في المسائل الدّاخلة في الاجتهاد‏.‏

أمّا الحكم المعلوم بنصّ، أو إجماع، أو قياس جليّ، فلا مدخل للمشاورة فيه‏.‏

وفي قول عند المالكيّة‏:‏ أنّ القاضي يؤمر بألاّ يقضي فيما سبيله الاجتهاد إلاّ بعد مشورة من يسوغ له الاجتهاد، إذا لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد‏.‏

وعلى القول بالنّدب، فإنّ القاضي لا يلزم بمشورة مستشاريه فإذا حكم باجتهاده فليس لأحد أن يعترض عليه لأنّ في ذلك افتياتاً عليه وإن خالف اجتهاده، إلاّ أن يحكم بما يخالف نصّاً من كتاب أو سنّة، أو إجماعاً، وذلك لوجوب نقض حكمه في هذه الحالة‏.‏

ويشاور القاضي الموافقين والمخالفين من الفقهاء، ويسألهم عن حججهم ليقف على أدلّة كلّ فريق فيكون اجتهاده أقرب إلى الصّواب‏.‏

فإذا لم يقع اجتهاد القاضي على شيء، وبقيت الحادثة مختلفةً ومشكلةً، كتب إلى فقهاء غير مصره، فالمشاورة بالكتاب سنّة قديمة في الحوادث الشّرعيّة

ما يلزم المستشار في مشورته

8 - على من استشير أن يصدق في مشورته لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » المستشار مؤتمن « ولقوله‏:‏ » الدّين النّصيحة «‏.‏

وسواء استشير في أمر نفسه أم في أمر غيره، فيذكر المحاسن والمساوئ كما يذكر العيوب الشّرعيّة والعيوب العرفيّة‏.‏

ولا يكون ذكر المساوئ من الغيبة المحرّمة إن قصد بذكرها النّصيحة‏.‏

وهذا الحكم شامل في كلّ ما أريد الاجتماع عليه، كالنّكاح، والسّفر، والشّركة، والمجاورة، وإيداع الأمانة، والرّواية عنه، والقراءة عليه‏.‏

ولفقهاء المذاهب تفصيل في حكم ذكر المساوئ، وفيما يلي بيانه‏:‏

ذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز لمن استشاره الزّوج في التّزوّج بفلانة أن يذكر له ما يعلمه فيها من العيوب ليحذره منها، ويجوز لمن استشارته المرأة في التّزوّج بفلان أن يذكر لها ما يعلمه فيه من العيوب لتحذر منه‏.‏

ومحلّ جواز ذكر المساوئ للمستشار إذا كان هناك من يعرف حال المسئول عنه غير ذلك المستشار، وإلاّ وجب عليه البيان، لأنّه من باب النّصيحة لأخيه المسلم، وفي قول آخر‏:‏ يجب عليه ذكر المساوئ مطلقاً، كان هناك من يعرف تلك المساوئ غيره، أم لا‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى وجوب ذكر المساوئ سواء استشير أو لم يستشر في النّكاح والمبيع وغيرهما لكن بشرط سلامة العاقبة، بأن يأمن الذّاكر على نفسه وماله وعرضه‏.‏

وفي قول للشّافعيّة‏:‏ أنّ من استشير في أمر نفسه وجب ذكر العيب إن كان ممّا يثبت به الخيار كالعنّة وإلاّ فإن لم يكن معصيةً كبخل فيسنّ ذكره، وإلاّ وجب عليه التّوبة منه، وستر نفسه‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ على من استشير في خاطب أو مخطوبة أن يذكر ما فيه من مساوئ أي عيوب وغيرها، ولا يكون ذكر المساوئ غيبةً محرّمةً مع قصده بذكر ذلك النّصيحة لحديث‏:‏ » المستشار مؤتمن « وحديث‏:‏ » الدّين النّصيحة « وإن استشير في أمر نفسه بيّنه وجوباً كقوله‏:‏ عندي شحّ وخلقي شديد ونحوهما‏.‏

الشّورى في عقد الإمامة الكبرى‏:‏

9 - يجوز للإمام أن يجعل الخلافة من بعده شورى بين عدد محصور يعيّنهم فيرتضون بعد موته - أو في حياته بإذنه - أحدهم كما جعل عمر - رضي الله عنه - الأمر شورى بين ستّة من الصّحابة وهم‏:‏ عليّ والزّبير وعثمان وعبد الرّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وطلحة - رضي الله عنهم - وارتضوا بالتّشاور بينهم على أن تكون الخلافة لعثمان من بينهم‏.‏

وعقد الإمامة بهذه الطّريقة داخل في الاستخلاف إلاّ أنّه يكون لواحد بعينه، وهنا يكون في عدد محصور يعيّن الخليفة من بينهم بالتّشاور‏.‏

والشّورى ليست شرطاً في عقد الإمامة‏.‏

ويجوز للإمام أن ينفرد بعقد البيعة لمن أدّاه اجتهاده إلى صلاحيّته ما لم يكن والداً ولا ولداً‏.‏ واختلف العلماء في اشتراط رضا أهل الاختيار به‏:‏

فمن العلماء من ذهب إلى أنّ رضا أهل الاختيار شرط في لزوم بيعته لأنّها حقّ يتعلّق بالأمّة فلم تلزمهم بيعته إلاّ برضا أهل الاختيار منهم‏.‏

ومنهم من ذهب إلى عدم اعتبار رضا أهل الاختيار، لأنّ بيعة عمر - رضي الله عنه - لم تتوقّف على رضا الصّحابة، ولأنّ الإمام أحقّ بها، فكان اختياره فيها أمضى‏.‏

أمّا إذا كان ولداً أو والداً فللعلماء في انفراد الإمام بعقد البيعة له دون استشارة ثلاثة مذاهب‏:‏ المذهب الأوّل‏:‏

لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لأحدهما حتّى يشاور فيه أهل الاختيار، فإذا رأوه أهلاً صحّ منه حينئذ عقد البيعة له، لأنّ عقد البيعة تزكية تجري مجرى الشّهادة، وتقليده على الأمّة يجري مجرى الحكم، وهو لا يجوز أن يشهد لوالد ولا لولد، ولا يحكم لواحد منهما للتّهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه‏.‏

المذهب الثّاني‏:‏

يجوز أن ينفرد بذلك، لأنّ أمره نافذ للأمّة فيغلب حكم المنصب على حكم النّسب، ولا تجد التّهمة طريقاً للطّعن في أمانته، فصار كأنّه عهد بالإمامة إلى غير ولده ووالده‏.‏

المذهب الثّالث‏:‏

يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده ولا يجوز لولده لأنّ الميل إلى الولد أكثر وأقوى من الميل إلى الوالد‏.‏